أكتوبر 05, 2016 Al Fanar أخبار اليوم, أخبار رئيسية, العرب, العربي الجديد, المغرب, مقالات ألفنار 0
خيار التصويت العقابي!
علي أنوزلا
منذ الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش، الذي قرَّع فيه الملك مباشرة وأمام الشعب رئيس حكومته المنتخب، ابتلع عبد الإله بنكيران لسانه، وأدخل سيفه في غمده ولم نعد نقرأ عن قصف “مدفعيته الثقيلة”، كما يحلو لنوع من الصحافة المقربة منه أن تٌمجِّد تصريحاته.
هذه المرة، بنكيران، خانه ذكائه الفطري، والرصاصة الأخيرة التي سددها إلى الهدف بعيدا عن ظلال التماسيح والعفاريت التي أتقن التصويب نحوها، سرعان ما ارتدت صوبه وأخرست لسانه.
لقد تعود بنكيران في كل مرة يجد نفسه محشورا في الزاوية أن يتوجه إلى السلطة بخطاب يذكرها بدوره في حمايتها من رياح “الربيع العربي”، ويُنبهها إلى أن تلك الرياح مازالت لم تسكن، ويتوجه إلى الشعب بخطاب يخطب وده ويَعترف له بأن وجوده في الحكومة مدين به لرياح ذات “الربيع العربي” الذي عارضه ووقف ضد شعاراته هو وحزبه.
أما عندما يكون بنكيران في موقع قوة، خاصة عندما تٌطلقُ يداه ليتخذ قرارات لا شعبية تجعله في مواجهة مباشرة مع الشارع والشعب، يٌصور نفس “الربيع” “خريفا”، ويحذر من شره المقيت الذي حفظ الله منه المغرب بفضل اعتراضه هو وحزبه عليه وعدم مناصرتهما له.
لكن هذه المرة تختلف عن سابقاتها. لقد وضع بنكيران نفسه، ومن المؤكد أنه لم يكن يَبغي ذلك، في مواجهة مباشرة مع الملك. ألم يردد في أكثر من مناسبة بأنه لم يأتي للتصادم مع الملك؟ وبأن من يريد أن يدفعه إلى فعل ذلك كان عليه أن يختار رئيسا آخر للحكومة غيره؟ فما كان يخشاه بنكيران أوقع نفسه بنفسه فيه، والصدام الذي طالما تجنبه وتفاداه بل وقدم التنازلات من اجل أن لا يحدث وقع في نهاية ولايته، والمفارقة أنه وهو من أوقع نفسه فيها.
فطيلة السنوات الخمس الماضية، ظل بنكيران حريصا على شيئين اثنين: كسب ثقة القصر، والاستمرار في الحكومة، ولا شئ آخر غير ذلك. ومن أجل هذين الهدفين كان مستعدا لتقديم كل التنازلات، واتخاذ كل القرارات، وابتلاع كل الإهانات، وتطبيق أسوأ السياسات، وقمع وإسكات كل المعارضات بما فيها حتى تلك التي حاولت أن ترفع صوتها من داخل حزبه.
وإذا كان بنكيران قد نجح في أمر ما فهو بالفعل نجح في شيئين: نجح في التطبيع مع الفساد، وساهم في التمكين للاستبداد في مزيد من التصرف في خيرات البلاد والتحكم في رقاب العباد. فلم نسمع أو نقرأ أو نرى يوما بنكيران محتجا أو منتفضا إلا عندما كان يريد أن يفرض ما يٌملى عليه من فوق على بسطاء هذا الشعب. وحتى خطاباته، عندما كان يلبس جبة المعارض داخل مقرات حزبه وأمام أتباعه نهاية كل أسبوع، كانت أقرب إلى “المظلمة” منها إلى خطاب “المعارضة”، تطغى عليها نبرة التشكي ومناجاة الضعيف.
إذا كان بنكيران قد نجح في أمر ما فهو بالفعل نجح في شيئين: نجح في التطبيع مع الفساد، وساهم في التمكين للاستبداد في مزيد من التصرف في خيرات البلاد والتحكم في رقاب العباد
اليوم يجد بنكيران، مرة أخرى نفسه، محشورا في نفس الزاوية، ومن الطبيعي أن يكشر عن أنيابه “إما أنا أو الطوفان”، يقولها لأهل الفوق. و”معا ضد الفساد والاستبداد”، يتودد بها إلى الشعب، الذي نسي أنه يٌمثله، لاستدرار أصواته. لكن كيف يمكن الثقة في من خانته الشجاعة وهو رئيس منتخب للحكومة أن ينتصر للبسطاء الذين يخطب اليوم ودهم من أجل أصواتهم؟ من يضمن أنه لن يعود غدا إلى التسيد على الضعفاء ومجاملة الأقوياء والتمسح بأعتاب الأوصياء؟
لماذا سيصوت المواطن لإعادة تثبيت بنكيران ليذكره صباح مساء بأنه هو واهب “الاستقرار”، و”حامي الديار”، وسينسى من صوت له من أبناء الشعب الفقراء ويتزلف من جديد إلى من حاربه بالأمس ويحاربه اليوم وسيحاربه غدا يخطب ود بعضهم، ويتحالف مع البعض الآخر، ويتنازل ويقدم الهدايا والعطايا لمن لا يستطيع الوقوف في وجههم، ويتوسل ويستعطف رضى من يعتبر أن مقامه لا يرقى إلى مقامهم…
لماذا سيصوت المواطن لتجديد الثقة في بنكيران ووزراء حزبه وحكومته؟ وزراء نكرات اسمهم عمارة والعمراني، ووزراء متعجرفين وفاشلين اسمهم لحبيب الشوباني ومحمد نجيب بوليف؟ أو في وزراء سيذكرهم المغاربة بقفشاتهم وزلات لسانهم وغباء تصريحاتهم أكثر مما سيذكرونهم بأعمالهم إن وجدت، اسمهم محمد الوفا ولحسن الداودي؟ أو في وزراء سلموا رقابهم لمدراء وزاراتهم ووضعوا الثقة التي وضعها الشعب فيهم في الأجهزة التي سمحوا لها أن تفصل لهم القوانين على مقاسها وحسب رغباتها ونزواتها.. اسمهم مصطفى الرميد ومصطفى الخلفي وعزيز رباح..
لماذا سيصوت المواطن ليجد نفسه أمام نفس أحزاب “الكارتون” ووزرائها الفاشلين والانتهازيين أصحاب الفضائح والكوارث والمصائب. أحزاب ظلت تتواجد في كل الحكومات التي تعاقبت على تدبير الشأن العام للمغرب منذ فجر “الاستقلال”. أحزاب عبارة عن دكاكين حزبية اسمها “الحركة الشعبية”، و”التجمع الوطني للأحرار”، و”التقدم والاشتراكية” تٌفصل الحقائب الوزارية على مقاس رغبات وأذواق زوجات أمنائها العامين وتؤثثها بالأصهار والعشيقات ومن يدفع أكثر..
لماذا سيصوت المواطن على حكومة نصف أعضائها ينتمون إلى حكومة أخرى، قال بنكيران نفسه، إنه لا يعرف من أين تأتيها تعليماتها ولا يعرف من يٌملي عليها قراراتها!
هناك من يقول بأن ذهاب بنكيران أو عدم تصدر حزبه للانتخابات المقبلة سيكون خسارة للتجربة الديمقراطية المغربية، وسيعطل الانتقال الديمقراطي المغربي المعطل أصلا، لكن ما الذي قدمه بنكيران وحزبه للتجربة الديمقراطية في المغرب طيلة السنوات الخمس الماضية؟ بالعكس فوجود الحزب في المعارضة رغم محدودية آدائه فيها كان أفيد للعباد وانفع للبلاد، ولا يعني هذا أنه لو عاد غدا إلى مقاعده في المعارضة سيستعيد بكارته المفقودة، لأن سنوات تسييره للشأن العام ستكون حٌجة ضده إذا ما أراد استعارة خطاب المعارضة من جديد. بل وهناك من يرى أن السلطة نفسها لا تريد أن تدفع بـ “العدالة والتنمية” إلى صفوف المعارضة بعد انتخابات أكتوبر، أولا، لأن وجوده في الحكومة مازال يخدم الكثير من مصالحها “الاستراتيجية” لتمرير مزيد من قراراتها اللا شعبية، وأيضا لدفعه إلى ممارسة المزيد من الرقابة الذاتية والضبط والتحكم في الأصوات المزعجة داخل صفوفه، وأخيرا لإنهاكه، لأن السلطة تستنزف صاحبها، قبل إعلان نهاية صلاحيته كما فعلت مع حزب “الاتحاد الاشتراكي” .
لقد نجحت استراتيجية السلطة حتى اليوم، في تركيز كل النقاش داخل وخارج حزب “العدالة والتنمية” حول شخصية أمينه العام وكرسيه في رآسة الحكومة، وأعتقد أن هذا هو الموضوع الذي ستركز عليه الحملة الانتخابية التي بدأت من الآن للتغطية على ما هو أهم، أي الإصلاحات الحقيقية التي طالبت بها حركة 20 فبراير، والتي لخصتها في شعارها المركزي “إسقاط الفساد والاستبداد”. وحتى إذا ما حاولنا الاقتناع برأي المدافعين عن بقاء بنكيران في منصبه إذا تصدر حزبه الانتخابات المقبلة، انتصارا لـ “المنهجية الديمقراطية” التي سنها دستور 2011، فإلى أي حد سيصمد بنكيران نفسه للانتصار لنفسه؟ فغدا عندما سيختار القصر شخصا آخر غيره اسمه عزيز الرباح أو سعد الدين العثماني وربما مصطفى الرميد، سيخرج علينا بنكيران بتأويلاته ومنطقه الذي يحلل به الحرام متى شاء ويحرم به الحلال متى ائتمر بذلك. وقد استبق بنكيران نتائج الانتخابات وقرار الملك، وأعلن بأنه سيعود إلى بيته إذا ما اختار الملك أحدا آخر غيره من داخل حزبه، في حالة تصدره لانتخابات أكتوبر، لقيادة الحكومة المقبلة. وإذا كان بنكيران قد أعلن بأنه غير مستعد لـ “المحاربة” من أجل البقاء في منصبه، فكيف يمكن أن يٌقنع الآخرين بـ “المحاربة” عوضا عنه لإعادة تثبيته في منصبه؟ !
المنجل كما يعرف أبناء الفلاحين له قبضة وليس له غِمد
وبالمقابل فإن تصدر “الأصالة والمعاصرة” الانتخابات المقبلة، وترأسه الحكومة سيكون وبالا على الجميع، وستكون العودة إلى الوراء حتمية لا ريب فيها، ولا أعتقد أن السلطة نفسها تحبذ سيناريو من هذا النوع لأنه سيعيد إذكاء نار الغضب الشعبي التي إنما خمدت ولم تنطفئ. وفي حال تحقق هذا السيناريو فإن من أهم ميزاته هو أنه سيجعل اللعبة مكشوفة وسيعري عن وجه الاستبداد والفساد الحقيقين وسيضعه في مواجهة مباشرة مع الشارع بدون وساطات ولا “بارشوكات”.
لقد نجحت السلطة في وضع الناخب أمام خيارين أحلاهما مر. ما بين المنجل وقبضة المنجل، وكلاهما طوع الذراع الطويلة للسلطة. لقد كان كل الوزراء الأولون في الحكومات التي تعاقبت على تدبير الشأن العام المغربي بما فيهم رئيس الحكومة الحالية المنتهية ولايتها، بمثابة “قبضة” المنجل، أغلبهم كان حريريا ناعم الملمس وبعضهم مثل بنكيران بقي خشنا رغم كل محاولاته تطويع نفسه في قبضة سيده. أما المنجل، فمن عاشوا قساوة سنوات الجمر والرصاص فقد عانوا من حِدَّتِه وبطشِه. والمنجل كما يعرف أبناء الفلاحين له قبضة وليس له غِمد.
الناخب المغربي اليوم أمام مفترق طرق كبير ، وفي حيرة كبيرة من أمره وهو يسأل نفسه: ما العمل؟
لقد أثبتت تجارب مقاطعات الاستحقاقات السابقة لا جدواها، بل وسلبياتها الكثيرة التي راكمت لنا كل هذا الكم الهائل من الفساد والاستبداد، لأنها لم تساهم سوى في تحييد أغلبية الشعب وإتاحة الفرصة لنفس اللاعبين لتبادل نفس الأدوار واقتسام الكعكة فيما بينهم. وأمام الخيارات الثلاثة المطروحة اليوم أمام الشعب، خيار التجديد لبنكيران وفريقه الفاشل، وخيار التصويت لغريمه حزب السلطة الساعي إلى إعادة عقارب الساعة إلى ما بعد لحظة 20 فبراير، وخيار التصويت “لفيدرالية اليسار” كمسلك ثالث حظوظه اليوم ضعيفة لأسباب موضوعية مرتبطة بضعف مكوناته وتشتت أصواته، وخيار المقاطعة الغير مجدية، هناك خيار خامس هو خيار التصويت العقابي. التصويت العقابي ضد أحزاب السلطة وأذنابها لأن التصويت لها هو تزكية لها، والتصويت العقابي ضد بنكيران وحزبه حتى تهتز الأرض تحت كراسيهم الوتيرة التي بات يؤمنها لهم جمهور انتخابي حديدي مٌبرمج. والتصويت العقابي ضد السلطة نفسها التي لا تسعى سوى إلى فرض إرادتها على إرادة الشعب.
هناك من سيقول بأن التصويت العقابي هو آلية من آليات العمل الديمقراطي والواقع أن ما تفتقده التجربة المغربية هو غياب الديمقراطية نفسها. لكن التصويت العقابي، في هذه الحالة، يمكن أن يكون تصويتا أبيضا حتى وإن كان التصويت الأبيض مثله مثل قرار المقاطعة، لن يغير كثيرا من قواعد اللعبة، إلا انه سيرسل أكثر من رسالة إلى أصحاب اللعبة والمستفيدين منها. تصويت أبيض للرد على خياري السلطة اللذين تريد أن تفرضهما على الشعب: إما مرشحها أو المرشح الذي لن يزعجها فوزه أو من هي متأكدة من تحجيم فوزه والتحكم فيه.
إنه خيار صعب على من لازالوا يثقون في اللعبة الانتخابية، وخيار أصعب على من ألفوا مقاطعتها ليأسهم منها، ولكن ليٌجرب هذه المرة من لازالوا يكلفون أنفسهم عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع فلن يخسروا أكثر مما سيخسرونه لو نجحت الخيارات الأخرى وكلها ستكون كارثية على مستقبل البلاد والعباد.
المغرب.. انتخابات الحسم
إدريس الكنبوري
تكتسي الانتخابات التي سيشهدها المغرب في السابع من شهر أكتوبر طابعا خاصا يميزها عن المحطات الانتخابية السابقة، وذلك على أكثر من صعيد. فلأول مرة سمحت الدولة للتيارات المنادية بمقاطعة العملية الانتخابية بالظهور العلني أثناء الحملة، ممثلة في حزب النهج الديمقراطي، وهو حزب يساري راديكالي صغير، حيث ظهر أعضاؤه في البعض من شوارع المملكة يوزعون بيانات داعية إلى مقاطعة الاقتراع، كما أن جماعة العدل والإحسان ـ المعروفة بموقفها التقليدي الرافض للمشاركة ـ تقود حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لدعوة المواطنين إلى عدم التصويت.
ويظهر أن الدولة تريد أن تمنح لهذه الانتخـابات مسحة أكثر ديمقراطية وانفتاحا، رغم البعض من الانتقادات المتبادلة بين مختلف الأحزاب السياسية بشأن سـلامة الحملة الانتخابية، أو الاتهامات الضمنية التي توجه إلى وزارة الداخلية. ذلك أن هذه الانتخابات تأتي في سياق محاولة الدولة تدشين مسار سياسي طبيعي، بعد الانتخابات التي أجريت عام 2011 في ظل وضع داخلي وإقليمي وعربي تميز بالاحتجاجات على خلفية ما دعي بالربيع العربي، ولذلك تسعى إلى أن توجه رسالة إلى مختلف الأطراف السياسية مفادها أن المحطة الانتخابية الحالية تعد تأكيدا على الاختيارات الكبرى التي كرسها الدستور الجديد الـذي أجري حوله استفتاء شعبي قبل خمس سنوات. وتشهد الانتخابات الحالية سباقا محموما بين الحزبين الرئيسيين في البلاد، حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي الذي قاد الولاية الحكومية لمدة خمس سنوات، وحزب الأصالة والمعاصرة الذي يمثل التوجه الحداثي والذي يسعى إلى أن يشكل القطب الرئيسي في مواجهة الإسلاميين أو المحافظين.
وفي الوقت الذي اختار فيه حزب العدالة والتنمية أسماء جديدة في لوائحه الانتخابية، وقام بتقديم البعض من رموزه المعروفين في دوائر غير تلك التي فازوا فيها خلال الانتخابات الماضية، سعيا إلى الحيلولة دون حصول مفاجآت بسبب سلبيات قيادته للحكومة، ولإبعاد احتمالات الفشل بالنسبة إلى البعض من رموزه، فقد اختار حزب الأصالة والمعاصرة مرشحين من الشباب أو الأعيان ذوي التأثير الاجتماعي أو من طبقة رجال الأعمال المثرين، مثل أسرة الشعبي، حيث قدم مرشحيْن منها، الأول في مدينة القنيطرة شمال غرب المملكة، والثاني في مدينة الصويرة وسط المغرب.
بيد أن الملاحظ في الانتخابات الحالية خلوّ الخطاب السياسي للأحزاب المتنافسة من بعض العبارات التي كانت إلى وقت قريب جزءا من المعجم السياسي الدارج، نظير عبارة “التحكم” التي اعتاد حزب العدالة والتنمية التلويح بها في وجه خصومه، خصوصا حزب الأصالة والمعاصرة، في إشارة إلى الدولة العميقة أو أحيانا إلى وزارة الداخلية نفسها، دون تعيين. فقبل أسبوعين، وعقب تصريحات لوزير السكنى الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية اتهم فيها مستشار الملك، فؤاد عالي الهمة، بالوقوف وراء تأسيس الحزب المشار إليه، أصدر الديوان الملكي بلاغا يعرب فيه عن استياء القصر من توظيف أسماء مستشاري الملك في صراعات سياسية بين الأحزاب، واستعمال مفاهيم “تسيء إلى سمعة الوطن، وتمس بحرمة ومصداقية المؤسسات”، كما ورد في البلاغ المذكور، وهو ما ضمن للحملة الانتخابية أن تجري بعيدا عن التنابز بالعبارات التي كانت أمرا عاديا في الفترة السابقة.
وتعد هذه الانتخابات محطة حاسمة بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية من جانبين؛ فهي من ناحية اختبار لتجربته الحكومية أمام الناخبين لإقناعهم بحصيلته طيلة السنوات الخمس الماضية، وهي من ناحية أخرى محك له أمام خصومه السياسيين، لتأكيد استمرار شعبيته رغم ما لحق تدبيره للعمل الحكومي من نقائص. ويرتكز الحزب على خطاب انتخابي يقول بأن قيادته للحكومة جاءت في ظروف صعبة بالنسبة إلى البلاد، وبأن عدم الوفاء بالتزاماته أمام المواطنين، والقرارات غير الاجتماعية التي اختارها يعودان إلى الوضعية التي وجد عليها الوضع العام في البلاد، مما دفعه إلى اتخاذ تلك القرارات بهدف استعادة التوازنات، وبأنه أنقذ المغرب من السقوط في الفتنة، وانطلاقا من ذلك يدعو إلى تمكينه من ولاية جديدة لمواصلة الإصلاحات.
لكن خطاب المعارضة، التي تنظر إلى هذه الانتخابات كمحطة للحسم، يهاجم الحزب بسبب فشله في ملفات حساسة مثل التشغيل والتعليم والصحة، ونهج أسلوب إقصائي في حق المكونات السياسية الأخرى داخل الحكومة والانفراد بالقرارات ودعم الوزارات التي يتولاها أشخاص ينتمون إليه. كما تقول المعارضة بأن الإصلاحات التي تعلن الحكومة أنها أنجزتها خلال ولايتها فيها جانب له علاقة بالأوراش الملكية، وهي أوراش لا تعني الحكومة بشكل مباشر، لكن هذه الأخيرة تحاول استثمارها سياسيا لفائدتها، مثل إصلاح مؤسسة القضاء، وفيها جانب آخر له علاقة بالإصلاحات التي كانت الحكومة السابقة قد شرعت فيها وفتحت حولها نقاشا لكنها لم تستكمل، مثل ملف التقاعد على سبيل الذكر. كما أن هناك انتقادات تنصب على الأداء الحكومي بشكل عام، بسبب تعثر التحالف وغياب الانسجام بين مكونات الحكومة، واعتماد رئيس الحكومة وحزبه خطاب المظلومية، والعجز عن محاربة الفساد التي كانت الشعار الرئيسي الذي رفعته الحكومة عام 2011، وفشل الحوار مع النقابات، وعدم فتح حوار مع المنظمات الحقوقية حول جملة من الملفات، وكذلك المنظمات النسائية.
أطروحات غير ديمقراطية
بلال التليدي
أنتج سياق الاستحقاق الانتخابي تقريبا أربع أطروحات بخصوص حزب العدالة والتنمية ومستقبل العملية الانتخابية، تتميز في مظهرها الأول بالتناقض، وتتسم في مظهرها الثاني بالاشتراك في المضمون اللاديمقراطي والتعدد في التعبيرات.
الأطروحة الأولى، وهي أطروحة الفوز بانتخابات 7 أكتوبر، وقد مثلت عنوانا أساسيا لعدد من التوقعات التي سبقت شهر أبريل من هذه السنة، وعبر أستاذ العلوم السياسية السيد مصطفى السحيمي عنها في عدد من التصريحات والحوارات، ومنها على وجه الخصوص حواره مع “أخبار اليوم”.
الأطروحة الثانية: وهي أطروحة نهاية حكم الإسلاميين وقد ابتدأت زمنيا مع الأسبوع الأول من شهر أبريل، من السنة الجارية نفسها، وقد تولدت هذه الأطروحة بشكل مفاجئ ومن غير سابق تمهيد، كما ولو كانت صدى لتوجه بعض الجهات التي تسعى إلى التأثير على مراكز القرار، وترفع شعار: “إعادة الأمور إلى نصابها”، للإجهاز على مسار ما بعد فاتح يوليوز 2011. ومرة أخرى، للأسف، برر مصطفى السحيمي هذه الأطروحة بمقاله المعنون بـ: “بنكيران الخدعة الكبرى” الذي نشر بمجلة “ماروك إيبدو”، والذي ذهب فيه إلى حد القول بأن “le Maroc n’est pas gouverne”.
الأطروحة الثالثة، وهي أطروحة الفوضى، والتي ابتدأت بتصريحات للأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، ثم تبعه في ذلك الكاتب الأول لحزب “الوردة” إدريس لشكر حين ذهب إلى أن مصير المغرب في حال فوز العدالة والتنمية سيكون شبيها بسوريا وليبيا، ثم تحول إلى حالة عامة غطت عناوين بعض الصحف القريبة من الجهات المعادية للإسلاميين، وصارت أفكارا أساسية في افتتاحيات عدد منها.
الأطروحة الثالثة، والتي تم استعادتها من جديد بعد أن تبلورت قبيل استحقاقات 2011، والتي تقر بفوز العدالة والتنمية، لكنها تبحث عن مخرج سياسي وقانوني للتخلص من الاستحقاق الدستوري. تنطلق هذه الأطروحة من توقع فوز البيجيدي في الاستحقاق الانتخابي للسابع من أكتوبر وعجزه عن تشكيل تحالفات تمكنه من تشكيل حكومته، ومن ثمة استحالة تشكيله للحكومة، وقد عبر مصطفى السحيمي مرة أخرى عن هذه الأطروحة لمجلة “جون أفريك” بموازاة مع تحول هذه الأطروحة إلى خطاب سائد في نفس الصحف والافتتاحيات السابقة.
هذه أطروحات أربع، تتناقض في مستواها الأول في توقع الفوز من عدمه، إذ يكشف التحول في الموقف من توقع عدم الفوز إلى توقع الفوز سوء تقدير في قوة العدالة والتنمية وتصور حجم شعبيته في الواقع، إذ شكلت الحملة الانتخابية وفشل رهانات التضييق عليه، بل وفشل خلق حَراك معارض له مؤشرات كافية لتعديل الموقف.
أما في المستوى الثاني، فسواء تعلق الأمر بخطاب الفوضى، أو البحث عن ذرائع غير دستورية للحكم على نهاية تجربة الإسلاميين، فإن هذا التعدد في الأطروحات يبين المأزق الذي توجد عليه الجهات المعادية للعدالة والتنمية، وأنها بعد الفشل في ضرب سمعته، صارت تبحث عن تكتيكات سياسية لهزمه بعد أن تأكدت من استحالة هزمه انتخابيا.
لكن المشكلة أن خطاب الفوضى أو خطاب الأزمة السياسية التي تبشر بها هذه الأطروحات بحجة عجز العدالة والتنمية المحتمل عن تشكيل الحكومة، يعكس في جوهره محدودية الخيارات لدى هذه الجهات، وأنها صارت اليوم تهدد بضرب الاستقرار إن تحقق عكس مرادها، وهو مؤشر إضافي على المأزق الذي يوجد عليه اليوم خطاباتها وأطروحاتها.
الأمين العام للعدالة والتنمية سجل نقطة مهمة على هذه الأطروحات حين سُئل عن موقف حزبه في حال عدم فوزه، وهل سيقدم على الاحتجاج على نتائج الانتخابات، فأبرز تشبثه بالاستقرار، وهزم بجوابه هذه الجهات حين ذكر بموقف حزبه من 20 فبراير، وأن الذي لم يغامر باستقرار بلده في لحظة الحَراك لا يمكن اليوم أن يسير في هذا الاتجاه المظلم ليضرب المكتسبات الإصلاحية الكبرى التي تحققت، ويعكر على صفو الجواب المغربي الذي أنتج الاستثناء في العالم العربي.
7 أكتوبر في المغرب.. هواجس عودة الدولة العميقة
محمد طيفوري
يعيش المغرب، هذه الأيام، على إيقاعات الحملة الانتخابية لثاني اقتراع تشريعي في البلاد؛ بعد أول دستور في عهد محمد السادس. وهي انتخاباتٌ توصف بالمصيرية في مسار البلاد، ويراها مراقبون عديدون، داخلياً وخارجياً، نوعيةً في إقليم عربي ملتهب.
سوف يقطع المغاربة، يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، الشك باليقين حيال حلم الانتقال الديمقراطي في البلاد، والذي دخلته مع انطلاقة الربيع المغربي في 20 فبراير/ شباط 2011 وما تلاه. باختصار، إنه موعد لمواصلة الخطوات نحو الالتحاق بنادي الدول الديمقراطية، أو النكوص إلى الاستبداد والعودة إلى رحاب السلطوية.
تتوالى الإشارات غير المطَمْئنَة التي تتهدد مآلات هذا المسار، منذ مفاجأة الانتخابات المحلية في سبتمبر/ أيلول 2015، والتي جاءت عكس كل التوقعات باكتساح الإسلاميين الصناديق، لتبلغ تلكم الإشارات ذروتها قبل بداية الحملة الانتخابية، وتبقى مستمرة في عزها.
الإشارة الأولى: أيام قبل الاحتكام إلى الصناديق لتقيم حصيلة خمس سنوات من التدبير الحكومي؛ وتطبيق القاعدة الدستورية القاضية بربط المسؤولية بالمحاسبة، تخرج على المغاربة مسيرة “لقيطة” للمطالبة برحيل حكومةٍ منبثقةٍ عن انتخابات عُدت الأولى في تاريخ المغرب التي لم يقع فيها التلاعب. مرّت التظاهرة بما لها وما عليها؛ وما أكثر ما عليها بالنظر إلى شعاراتها ومطالبها، من دون أن تحرّك وزارة الداخلية ساكنا في وقتٍ تمنع فيه عشرات التظاهرات الأخرى (حزبية، حقوقية، جمعوية،…) ممن استوفت كل الشروط القانونية والتنظيمية.
الثانية: إبّان الحملة الانتخابية، وفي أوج الصراع والتنافس الذي تُصرف عليه الأموال الطائلة، بغاية التواصل مع المواطنين والمواطنات، وتقديم برامج الأحزاب الانتخابية، يقرّر رجال وزارة الداخلية منع تجمعاتٍ خطابية ومهرجاناتٍ لزعماء الأحزاب ووزراء في الحكومة، وفي
“إصرار الدولة العميقة على إغلاق قوس الربيع المغربي الذي لم تعد نخب المخزن قادرةً على كلفته، والمفتوح منذ أكثر من خمس سنوات” مقدمتهم رئيس الحكومة (في مراكش)، ووزير التجهيز والنقل (في الحاجب)، وزعيم حزب الأصالة والمعاصرة (في وجدة).
الثالثة: انحياز رجال السلطة (الولاة، العمال، الباشوات، القياد…) في بعض المناطق لدعم مرشحي أحزابٍ بعينها على حساب بقية المتنافسين معهم في الدوائر الانتخابية؛ إما تصريحاً أو تلميحاً للمقدمين والشيوخ وبعض الأئمة في المساجد. ما يشكل إخلالاً بقواعد التنافس والحياد المفروض من وزارةٍ أوكلت إليها مهمة الإشراف على هذا الموعد الحساس مع الديمقراطية.
الرابعة: اللجوء إلى أساليب الضغط والابتزاز في مواجهة بعض المرشحين لثنيهم عن الترشح، ومنع ترشح آخرين بلا سند قانوني واضح (حالة السلفي حماد القباج مثلا)، وفي ذلك خرق دستوري لأبسط حقوقهم السياسية.
الخامسة: تنامي ظاهرة العنف الانتخابي في بعض المواقع، انتصاراً لطرف على حساب البقية، فمن الاعتداء المباشر على مرشحين إلى الهجوم ليلا على مقرات أحزاب، تتحول المعركة الانتخابية إلى صراع شعاره أنا أو أنت، ما يهدّد بإخراج الأمور عن مسارها الطبيعي المعتاد.
تجعل هذه الإشارات وغيرها الحياد المطلوب، من وزارة الداخلية، تجاه الصندوق يوم الاقتراع أمراً عصيا، في ظل دخولها على الخط طرفاً في المنافسة، وليس حكماً يفصل بين اللاعبين، ويصون التجربة الديمقراطية قيد التشكل، بحماية أصوات المواطنين، كما يفترض فيها أن تكون.
لكل ما سبق تفسير وحيد أوحد، هو جهود الدولة العميقة، ممثلة تحديدا في هذه الوزارة، من أجل العودة إلى ضبط الحقل السياسي المغربي الذي بدأ يخرج عن سيطرتها تدريجيا، وتنفلت مراقبته وتوجيهه من بين يديها منذ حراك 20 فبراير. ولهذه العودة القوية لوزارة الداخلية انعكاسات سلبية على جوانب عديدة، في المشهد السياسي المغربي الذي يعد استثناءً في الإقليم العربي، منها:
أولا: وقف مسلسل المصالحة بين المغاربة والسياسة؛ فالرجوع إلى الاهتمام بالشأن العام من الشباب، بعد الإعلان عن إفلاس السياسية سنة 2007 ببلوغ العزوف ذروته، بدأ تدريجيا مع شباب حركة 20 فبراير التي أعادت السياسة إلى مركز اهتمام المغاربة، خصوصا الفئة الشابة منهم التي تخوض حالياً معارك انتخابية حامية في الواقع الافتراضي، بعد تضييق “الداخلية” على التجمعات الخطابية.
ثانيا: إنذار بتدني المشاركة في الانتخابات يوم سابع أكتوبر التي سوف تتراجع نسبتها، قياساً إلى انتخابات السنة الماضية، وأيضا إلى تشريعات نوفمبر/ تشرين الثاني 2011. بعدما تبين لشريحةٍ من المغاربة أن وزارة الداخلية لن تكون أمينةً في التعامل مع أصواتهم يوم الاقتراع.
ثالثاً: إعلان بالرجوع إلى زمن لغة الخشب في السياسة، من أجل التنفير من متابعة الشأن العام، تمهيداً لعودة التحكم والتدبير الفوقي، بعدما عاش المغاربة خمس سنوات مع حكومةٍ انتخبوها، استطاعت أن تفسر أعقد مشكلات البلد بخطابٍ سياسي شعبي تفهمه العامة والنخبة على حد سواء.
رابعاً: رغبة الدولة العميقة وإصرارها على إغلاق قوس الربيع المغربي الذي لم تعد نخب المخزن قادرةً على كلفته، والمفتوح منذ أكثر من خمس سنوات، بعدما تيقن صناع القرار في الدولة من أن لهيب نيران الثورات العربية خفُت، ومنسوب الخطر المحدق بالبلاد تراجع.
أصبح الاستقرار من ثوابت البلاد، ولا أحد بإمكانه المخاطرة بهذا “المقدّس” الذي تنشده معظم الأقطار العربية، لكن مغامرةً غير محسوبة العواقب، بغية اللعب في صناديق الاقتراع يوم السابع من أكتوبر يمكن أن تكون إعلان نهاية الاستثناء المغربي وموعدا مع المجهول.. فلا تجعلونا كذلك.
Este contenido también está disponible en español